أنا مهندس في الأربعين من عمري, نشأت في أسرة بسيطة بإحدي قري الأقاليم لآبوين لم ينالا اي قدر من التعليم, ومع ذلك يتميزان برجاحة العقل وحسن تصريف الامور.. أبي يبدأ يومه مبكرا في فلاحة قطعة الأرض.
التي نملكها, وأمي تنخرط في شغل البيت ومضت الحياة بنا علي ما يرام, فتفوقت في دراستي وكنت أحصل علي المركز الأول دائما,حتي صرت حديث الناس في المنطقة التي نعيش فيها والقري المجاورة, والتحقت بكلية الهندسة, وواظبت علي تفوقي, ولكن إنتابتني فجأة حالة إكتئاب شديدة, صاحبها وسواس قهري أفسد علي حياتي, فانزويت بعيدا عن الناس, وخضعت لجلسات العلاج النفسي والأدوية المهدئة التي جعلتني أقضي اليوم كله نائما غير واع بما حولي.
ومع مرور الأيام زاد تعبي, وكاد كل من حولي يفقدون الأمل في أن أعود كما كنت وحاولت جاهدا أن أتغلب علي هذه العقبة التي كنت مدركا تماما أنها ستقضي علي مستقبلي ولن أنسي أبدا دموع ابي وأمي وهي تنهمر حزنا علي ما وصلت إليه.. ولقد وقف الطبيب المعالج لي إلي جانبي واصر علي أن يظل إلي جواري حتي النهاية ولم يجد بدا من أن يخضعني لجلسات العلاج بالكهرباء كحل أخير ولن أستطيع أن أصف لكم مدي قسوة هذا العلاج, لكني استسلمت تماما لأقداري قانعا بان الله سوف يزيح عني الغمة وقتما يشاء فأنا واع بكل شئ ومدرك أن ما اعانيه عارض سيزول بإذن الله.
وكان لمرضي تأثير علي دراستي فتراجع مستواي ورسبت في السنة الإعدادية, ووجدتني ابتهل إلي الله وأدعوه أن يخلصني بما أنا فيه..وركزت جهدي في المذاكرة, وأيقنت أن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالي ووصلت إلي قناعة بأن ما قدره للإنسان سوف يراه, وزادني ذلك أطمئنانا ويقينا بأنه ـ عز وجل ـ لن يخذلني.. وأعدت هذه السنة ونجحت, وتحسنت حالتي النفسية قليلا, ومع مواظبتي علي العلاج, وبفضل الطبيب المعالج استعدت حيويتي, وثقتي في نفسي, وعدت إلي التفوق من جديد وتخرجت مهندسا, واختلفت الدنيا تماما معي.
ونحن في غمرة الفرحة بتخرجي اقترحت علي والدتي تزويجي من احدي بنات العائلة فظروفنا المادية ميسورة والحمد لله ولا ينقصنا شئ فوافقتها وتركت لها مسألة الاختيار من بين من أعرفهن..لكن ماحدث لم يكن في الحسبان.. هل تتصور يا سيدي ما حدث ؟
لقد رفضني الجميع, ولم يوافق أهل أي منهن علي ارتباطي بإبنتهم لأنني مريض نفسي, ولست طبيعيا مثل كل الشباب, وان من ستتزوجني لن تستمر معي طويلا.
فقلت لوالدتي.. دعي هذا الأمر لي, وسوف أتزوج من ترضي بي بعد أن أتعرف عليها وجها لوجه وتعلم بكل ظروفي وطبيعة مرضي.. ومرت الأيام والتحقت بإحدي الشركات, وتعرفت فيها علي زميلة لي شرحت لها تاريخي كله منذ ولادتي وحتي لحظة لقائي بها.. وإذا بها تقول لي تكفيك صراحتك.. أنا لن أجد من هو أفضل منك, فتعال نبني حياتنا من جديد, وسأكون لك الزوجة والطبيب وكل شئ.. وقتها لم تسعن الفرحة وسجدت لله أمامها شاكرا فضله الذي من علي بمثلها, والذي شفاني من الكابوس الذي كان جاثما فوق صدري.
وتزوجنا, وأقبلت علي العمل والحياة بحب وطمأنينة, ونسيت الليالي الحالكة التي مررت بها, وها أنا اكتب إليك لأنصح كل شاب بألا ييأس إذا صادفته عقبة, أو ألم به مرض, فكلها ابتلاءات من الله إذا صبر العبد عليها أثابه سبحانه وتعالي من فضله وكرمه, وأزاح عنه الهم والحزن والكوابيس التي تهدد حياته, فكونوا مع الله وثقوا تمام الثقة أن لنا ربا كريما فرجه قريب, والحمد لله رب العالمين.
{{ إذا كان الصبر مرا فإن عاقبته حلوة.. فصبرك علي ما ابتليت به ويقينك في أن الله عز وجل سوف يشفيك هو الذي خفف آلامك, ودفعك إلي أن تواصل مسيرتك بنجاح.
ويخطئ البعض حين يتصورون أن المريض النفسي فقد عقله أو أنه غير واع بتصرفاته ولذلك يخشون من تزويجه إبنتهم, فهذا المرض مثل كل الأمراض يكتب الله سبحانه وتعالي الشفاء منه لمن يريد وحين يأذن.. والمهم دائما ان نأخذ بالأسباب بزيارة الطبيب النفسي الذي لايقل دوره بأي حال من الأحوال عن غيره من الاطباء في مختلف التخصصات الأخري.
وأرجو أن تكون قصتك عبرة وعظة لمن يستسلمون لعثرات الطريق, فيراوحون مكانهم إنتظارا للنهاية, فبالعزيمة والإرادة القوية تتحقق الأحلام وينال المرء ما يريده ويبتغيه.. أما الاستسلام فيزيد الأوجاع ويدفع بالإنسان إلي حافة الهاوية..
وأراك قد أدركت من تلقاء نفسك مقولة هنري فورد: إن الفشل المؤقت هو مجرد فرصة لبداية ثانية اكثر ذكاءفرحت تذاكر دروسك من جديد بعد أن تعثرت في السنة الإعدادية بكلية الهندسة. وبرغم قسوة الأدوية والعلاج بجلسات الكهرباء استطعت تحصيل دروسك ونجحت بفضل الله.. ولو تأمل من حولك من الأقارب والجيران قصة صمودك لما رفضوك زوجا لإحدي بناتهم فلو أنك مجنون أو غير عاقل ـ علي حد تصورهم ـ لما اجتزت هذه الدراسة الصعبة بنجاح كبير ـ ولما وصلت إلي ما أنت فيه الآن.
وهذا هو أروع دروس قصتك, وهو ما إستشفته زميلتك في العمل فوافقت علي الارتباط بك. وهي علي يقين من أنها اتخذت القرار الصحيح, فإسعد بحياتك يا سيدي, وحول الليالي الحالكة التي مررت بها إلي ليال مضيئة كلها سعادة وسرور, وواظب علي تعاطيك الأدوية في مواعيدها, وزيارة الطبيب بإنتظام حتي تتعافي تماما.. وإنني أهدي قصتك لكل الناقمين علي الحياة ومحدودي النظرة الذين لا ينظرون إلي الدنيا ابعد من موضع أقدامهم,وأقول لهم الصبر مفتاح الفرج والأخذ بالاسباب طريق النجاة.. والاستعانة بالله هي الضمان الحقيقي للتغلب علي العقبات, وشكرا لك, والله المستعان.