قصة حقيقية رائعة ومؤثرة جداً حصلت في الجزائر على ذمة راويها !
يقول أحد كبار السن : في سنة 1994 م مرضت ابنتي الصغيرة .. فوجهني الأطباء إلى مستشفى " عين النعجة " بالجزائر العاصمة !
اتكلت على الله وسافرت إلى العاصمة .. ووصلت إلى المستشفى .. سألت عن الجناح المقصود , فوجدته بعيداً , ولم أكن أعلم أن المستشفى كبير لهذه الدرجة ! مدينة طبية متكاملة يسير الراكب فيها بسيارته , فكيف بشيخ مثلي ...!
مشيت قليلا , ولم أجد من يساعدني .. فتعب الشيخوخة وتعب السفر , وتعب الحاجة , وتعب المرض الذي ألَمّ بابنتي , جميعها ابتلاءات أرهقتني .. جلست لأستريح في مكان مخصص لركن السيارات .. وكنت بين الفينة والأخرى أذرف الدمع وأتوارى عن ابنتي وعن الناس كي لا يروني باكياً ...!
وبينما أنا كذلك , وإذ بسيارة فاخرة تركن بجواري , وخرج منها شاب طويل القامة بهيّ المحيّا , يرتدي مئزراً أبيضاً , شارته – بطاقته المهنية – تتدلى على صدره .. فتوجّه نحوي وسألني عن حاجتي .. فخنقتني العبرات ولم أقدر على الكلام .. سألني : يا عم هل معك رسالة طبية ؟ أعطني بطاقة هويتك ...!
يقول الشيخ : لما سلّمت البطاقة للشاب , راح يتأملني من رأسي إلى أخمص قدمي , وقد بدت عليه علامات الدهشة والاستغراب !! ثم أرسل تنهيدة من أعماق جوفه , وجلس بجانبي وراح يتفرس في ملامحي تارة ,, ويقبل جبيني تارة أخرى ,, ولم يتمالك نفسه وذرفت عيناه ! فسألته : ما بك يا ولدي ؟ هل أصابك مكروه لا قدّر الله !!
قال : لا .. وإنما أشفقت لحالك , ثم حمل ابنتي بين يديه وقال : تعال يا عم معي .. ودخل الشاب أروقة جناح طبي متخصص , ووضع الطفلة على كرسي متحرك , وأخذ يأمر وينهي , والكل يحييه تحية تقدير واحترام ويتودد إليه .. يبدو أنه صاحب مكانة وشأن في هذا المستشفى .. وراح يطوف بالبنت بين قاعة الاستعجالات ومخبر التحاليل وجناح التصوير بالأشعة وقسم التخدير والإنعاش والجراحة العامة .. وفي حدود الساعة الرابعة صباحا كانت البنت قد أجريت لها عملية جراحة ناجحة .. واستعادت وعيها ...!
حمدت الله وشكرت الشاب الذي كان لي ظهيراً وسنداً ومعيناً .. قلت له : سيبقى خيرك يطوّق عنقي ما حييت ,, فقد كان كل من في المستشفى يخدمني خدمة استغربت من مستواها الراقي جداً , ولم أسمع بها سوى في مستشفيات الدول المتقدمة في هذا المجال ...!
وبعد ثلاثة أيام , أمرني الطبيب الذي أجرى العملية الجراحية لابنتي بمغادرة المستشفى .. فطلب مني الذي التقيته أول يوم أن تمكث الطفلة في بيته أسبوعاً آخر حتى تسترد عافيتها وتستكمل نقاهتها .. لأن السفر متعب والمسافة بعيدة ...!
استحييت من كرمه وخيره .. لكني استجبت له .. ومكثت في ضيافته سبعة ليال , وكانت زوجته تخدم ابنتي وكان هو وأولاده يترفقون بي وبابنتي ويعاملونني بمنتهى الرقة واللطف والأدب ...!
وفي الليلة السابعة .. لما وضعوا الطعام على المائدة .. وتحلقوا للعشاء .. امتنعت عن الطعام , وبقيت صامتاً لا أتكلّم .. فال لي الرجل : كُل يا عم .. كُلْ .. ما ألَمّ بك ..!؟ قلت وبصوت مرتفع ونبرة حادة : والله لن أذوق طعاماً إلا إذا أخبرتموني من أنتم ..؟ ومن تكونون ..؟
أنت تخدمني طوال اسبوع كامل , وأنا لا أعرفك .. تخدمني وتبالغ في إكرامي ..! وأنا لم ألتقي بك سوى مرة واحدة في المستشفى .. من أنت ..!؟
قال : يا عم كُلْ .. هيّا كُلْ وبعد العشاء أخبرك .. قلت : والله لن تدخل فمي لقمة واحدة , ولن آكل طعامك إن لم تخبرني من أنت ؟ ومن تكون ؟
حاول الرجل التهرب من الجواب لكنه وأمام إصراري .. أطرق برأسه قليلا .. ثم قال بنبرة خافتة : يا عم إن كنت تذكر .. فأنا ذلك الطفل الذي أعطيته خمسة دنانير سنة 1964 م عندما كنت أجلس خلفك في الحافلة .. أنا ابن فلان ابن فلان ...!
قلت : آه تذكرت .. أنت ابن فلان من قريتنا ...!! نعم .. نعم .. لقد تذكرت , يومها كنت في الحافلة متجها من قريتنا إلى إحدى المدن القريبة , وكان يجلس خلفي صبيّان عمرهما لا يتجاوز على ما يبدو سبعة أعوام , سمعت أحدهما يحدث الآخر قائلا له : هذا العام شحّت السماء , والخريف يوشك أن ينصرم , والأرض لم تنبت شيئاً , وأبي فلاح فقير ليس بيده ما ينفقه عليّ , ولذلك فأنا مضطر لترك مقاعد الدراسة هذا العام ..!!
لما سمعت الطفلان يتحدثان عن الفقر والحرمان بهذا الوعي الذي لا يدركه إلا الكبار .. تأثرت وضاقت عليّ الأرض بما رحُبت .. وعلى الفور أخرجت من جيبي خمسة دنانير وناولتها للصبي وقلت له : خذ هذه الدنانير , والمبلغ آنذاك يفي لشراء الأدوات المدرسية كلها .. فرفض الصبي أخذ الدنانير ...!
فقلت له : ولماذا يا ولدي ؟ قال : ربما يظن أبي أني سرقتها ! قلت : قُل له فلان بن فلان أعطاني إياها لشراء الأدوات المدرسية ,, فإن أباك يعرفني تمام المعرفة .. تهللت أسارير الطفل وتناول الدنانير الخمسة وابتسم ابتسامة الرضا والسرور ودسها في جيبه .. ونسيت من يومها هذا الموقف مع ذاك الصبي ...!
قال الرجل : فأنا يا عم ذاك الصبي .. ولولا تلك الدنانير الزهيدة لما أصبحت اليوم بروفيسوراً في أكبر مستشفى بالجزائر .. وها قد التقينا بعد أن منَّ الله عليّ بأعلى المراتب في أنبل وأشرف المهن .. فقد افترقنا سنة 1964 م وها نحن نلتقي سنة 1994 م بعد ثلاثين سنة بالتمام والكمال ! والحمد لله أن قدّرني لأرد لك بعض الجميل ...!
يا عم الدنانير الخمسة التي أعطيتها لي صنعت مني بروفيسوراً في الطب .. يا عم والله لو أعطاني أحد كنوز الدنيا لما فرحت بها الآن كفرحتي يومها بتلك الدنانير الزهيدة .. يا عم أفضالك عليّ كبيرة .. والله مهما فعلت فلن أرد لك الجميل .. فأسأل الله أن يجازيك خير الجزاء ...!
فأكثروا إخواني من فعل الخير , ومساعدة الآخرين , والصدقة , ولو بالقليل , ففيها من البركة والخير الكثير في الدنيا , والأجر الكبير في الآخرة .
*******************
قال تعالي
(وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)