لا تحرقوني

شأنه شأن معظم الشباب الذين يغادرون ديارهم بحثاً عن حياة أفضل، لذا سافر وكله أمل في أن يجد فرصة عمل تحقق له أحلامه خاصة وأنه فني كمبيوتر وهذا التخصص مطلوب في كل مكان.

فرصة عمره

في أحد الأيام، وبينما كان يطالع إحدى الصحف وجد إعلاناً من إحدى الشركات تطلب فني كمبيوتر، لذا أسرع وقدم على الوظيفة التي كانت وكأنها مخصصة له، وبعد أقل من أسبوعين كان يجلس أمام شاشات الكمبيوتر التي في الشركة ويقوم ببرمجتها وإصلاحها وعمل صيانة لها.

كان جاداً ومخلصاً في عمله، بل كان عمله كل حياته، فخلال السنوات الأربع التي قضاها في الشركة لم يأخذ يوماً إجازة أو يحاول السفر والعودة إلى أهله لزيارتهم، فقد كان أمامه هدف محدد وهو الحصول على أكبر قدر من المال، لذا لم يعرف المطاعم ولا المقاهي، ولم يلبس الملابس الأنيقة أو الغالية بل كان صديقاً مخلصاً لبنطلونات الجينز والقمصان التي لا يزيد سعرها على دولارين أو ثلاثة.

وكان يجلس آخر كل شهر يحسب النقود التي جمعها في البنك، ويقوم بتحويل هذا الرقم إلى عملة بلاده فيجد أنه مبلغ ممتاز لكنه مع ذلك يريد المزيد.

في أحد الأيام تلقى اتصالاً من والدته تقول فيه إنها مريضة وترغب في رؤيته، وأخيراً قرر أن يأخذ إجازة ويذهب لزيارة والدته.

خلال زيارته لوالدته عرضت عليه فتاة وطلبت منه أن يتزوجها، ورغم أنه رفض في البداية إلا أن إصرار والدته التي هددته بأنها لن تسامحه إن هو لم يتزوج في حياتها أجبره على الرضوخ لها.

عاد الرجل ومعه زوجته فقدمت له الشركة عرضاً أفضل مما كان عليه، فقد بلغ مرتبه نحو 5 آلاف دولار، ولم يضع الرجل وقتاً بل قدم لزوجته طلباً كي تدرس في إحدى المدارس التي تدرس منهاج بلاده، وفعلاً حالفها الحظ وأضافت بوظيفتها هذه دخلاً جديداً إلى دخل زوجها.

خلال عشر سنوات تضخمت ثروة الرجل وأراد أن يستغلها في بلاده حيث اشترى مزرعة مانجو كبيرة، وخلال هذه الفترة رُزق بولدين وبنت.

حاول أن يستغل موسم المانجو وبدأ في تصدير هذه الثمار إلى بعض الدول. ولأنه كان مرتبطاً في وظيفته فقد طلب من بعض أقاربه أن يقوموا بهذا العمل، لكن على ما يبدو لم يوفق في ذلك فخسر الكثير ما اضطره لأن يبيع المزرعة.

البورصة عبر «النت»

قرّر الرجل أن يتاجر في سلعة يعرفها، فلم يجد أفضل من المتاجرة عبر «النت» في البورصة والأوراق المالية، كانت «النت» بالنسبة له لعبة سهلة فهو أفضل من يجيد استخدام الكمبيوتر وهو يعرف كيف يدخل في زواياه ويخرج من دون خسائر لذا قام بعمل موقع خاص به وبدأ بعرض خدماته على العملاء من خلال الموقع.

كانت الفكرة تقوم على أن يدفع هو (5000) دولار يشتري بها ساعات أو أقلام حبر أو «كاميرات ديجيتال» ويقوم ببيعها إلى شخص آخر مقابل عمولة، وكي يثبت للأشخاص الذين يزورون موقعه بأن هذه الفكرة صائبة وعليهم أن يشتروا عبر موقعه قام بشراء بضائع باسم زوجته وبأسماء أولاده الثلاثة دون أن يشعر زوار موقعه بأن هؤلاء هم أفراد عائلته.

ولكن هذه الفكرة لم تجد القبول فاضطر لأن يزيد حجم المشتريات بحيث بدأ يشتري بضائع عبر الموقع بأسماء أخرى ويقوم هو بتسديد هذه المبالغ من حسابه الخاص.

بعد عام على هذه التجربة لم يحقق الرجل أية أرباح بل على العكس من ذلك بدأت البضائع بتكديس عنده ولا تجد من يشتريها.

أحس الرجل بخيبة أمل كبيرة، وعندما حاولت زوجته أن تقنعه بأن يكف عن التجارة وصفها بأنها مجنونة وإنسانة متخصصة في الإحباط.

في إحدى الليالي وقعت بينه وبين زوجته مشادة كلامية قاسية وصفته خلالها بأنه إنسان غبي، لذا قرر أن يثبت لها بأنه عكس ذلك وأنه ذكي وذكي جداً وأنها عبء عليه لأنها لا تحب المغامرة مثله.

بعد مرور يومين على تلك الليلة الساخنة ذهب إلى البنك وطلب قرضاً وحصل عليه دون أن تعرف زوجته وراح يوهمها بأن هناك عملاء يشترون بضاعته عبر الموقع الالكتروني الخاص به، وأن الأموال بدأت تتدفق عليه من جديد.

لكن كما يقولون حبل الكذب قصير، فبعد أقل من خمسة أشهر اكتشفت زوجته الحقيقة وذلك عندما تسلم الرجل رسالة على هاتفه النقال من البنك تقول «نشكرك على تسديد القسط الشهري الخاص بالقرض».

بدأت المرأة تشعر بأن زوجها يسير نحو الهاوية فقد أصبح مهووساً باسترجاع أمواله، بأية طريقة وبدأ يتصرف بطريقة غير متزنة، حيث أخذت الهواجس تسيطر عليه من كل جانب حتى انه لم يعد يهتم بعمله كما كان في السابق.

ظن الرجل بأن أفضل طريقة لاستعادة ما ضاع منه من مال هو شراء الأسهم والسندات لذا أخذ ما تبقى من القرض وبدأ يشتري أسهماً هنا وسندات هناك وكانت النتيجة بأن خسر كل ما كان معه.

طريق مجهول

حاولت زوجته مرة ثانية إقناعه بأنه ليس كل إنسان يمكن أن يكون تاجراً فكل شخص مسير لما خلق له، فهناك من يجيد التجارة لكنه لا يجيد تقنيات الكمبيوتر، وهناك من يجيد التأليف والكتابة ولا يجيد تصليح السيارات وهكذا، لكن الرجل بدأ يفقد توازنه ولم يعد قادراً أن يتخيل بأن رصيده الكبير قد تبخر وأن أحلامه بدأت تتحول إلى كوابيس، ومما زاد الأمر تعقيداً أن الشركة التي يعمل فيها بدأت توجه له إنذارات بالفعل إن هو استمر في تغيبه وإهماله لعمله.

بدأت الديون تتراكم عليه سواء من حيث القرض الذي أخذه من البنك أو إيجار البيت الذي يسكن فيه أو أقساط المدارس التي باتت تهدد أولاده بالطرد بسبب عدم قدرته على دفع الأقساط، ورغم أن الأم تعمل إلا أن مرتبها لم يعد يفي بكل هذه الالتزامات.

فكر الرجل أن يعود إلى بلاده، لكن كيف يعود ليبدأ من الصفر، وإذا عاد ماذا سيشتغل وكيف سيعيل أسرته؟

بدأت الأمور تأخذ مجرى آخر في حياته، وبدا مشوّش الفكر قليل الكلام، أما أحوال الأسرة فقد انقلبت كلها رأساً على عقب وتحول البيت الهادئ إلى سجن يجمع في داخله كل فرد من أفراد الأسرة.

في إحدى الليالي، بينما كان سارح الذهن كعادته، قرّر أن ينهي حياته. فلم يعد لها أي معنى. كانت خطته في ذلك أن يرمي نفسه في البحر فهو لا يجيد السباحة، لكنه عدل عن ذلك وقرر أن ينتحر بشنق نفسه في المروحة المعلقة في السقف، فالكثير من أبناء جلدته سبقوه إلى الموت بهذه الطريقة فلماذا لا يفكر هو الآخر بالانتحار عن طريق شنق نفسه؟ لكنه عدل عن الفكرة لأنه بدأ يفكر ماذا سيكون مصير أبنائه وزوجته إن هو انتحر وتركهم خلفه، فهم لا يزالون صغاراً وبحاجة إلى من يرعاهم وزوجته لا تستطيع أن تتدبر الأمر فالمسؤولية ستكون عليها كبيرة.

العشاء الأخير

في إحدى الليالي جاء الرجل إلى بيته متأخراً وطلب من زوجته وأولاده أن يطلبوا أي نوع من الطعام يريدون فهو يريد أن يتناول الطعام معهم.

فرحت زوجته لهذا التطور الإيجابي وبدأت تخطط كيف تساعده على أن يتخطى الأزمة المالية والنفسية التي يمر بها، أجمع الكل على أنهم يريدون تناول الدجاج بالكاري فهذه الوجبة يحبها كل أفراد الأسرة.

بدأت الزوجة في إعداد الطعام ولأول مرة منذ أشهر تحس بمعنى السعادة، فقد عاد إليها زوجها وبدأ يهتم بأولاده وبها.

أعدت الزوجة الطعام وجلس الجميع على الأرض يتناولون العشاء. كان الرجل سخياً مع أسرته، فقد قال لزوجته أعدّي أكبر كمية من الدجاج الكاري.

أكلوا جميعاً إلا هو، فقد كان يتأمل أصابع أولاده الصغار وهي تمتد إلى الطعام وتتذوقه، شعر ببعض السعادة لكنها كانت سعادة ناقصة.

بعد أن تناول الأطفال الطعام ذهبوا إلى غرفتهم لكنهم طلبوا من والدهم أن يأتي معهم ليقص عليهم بعض القصص حتى يناموا كما كان يفعل في السابق.

لم يخيِّب الرجل آمالهم حيث ذهب معهم وبدأ يقص عليهم بعض القصص الخيالية حتى أسلموا أعينهم للنوم. أما زوجته فقد ذهبت هي الأخرى إلى سريرها وبدأت تفكر كيف ستساعد زوجها.

انتصف الليل ونامت كل العيون التي في البيت إلا عينيه بقيتا مستعصيتين على النوم، وكأن بينهما وبين النوم خصام. في ساعات الفجر الأولى تسلل الرجل إلى المطبخ وأحضر سكيناً كبيرة اشتراها لهذا الغرض، ودخل غرفة أولاده نظر إليهم، تأملهم، كانوا كالملائكة نائمين. تقدم منهم وطبع قبلة على خدِّ كل واحد منهم.

وفي لحظة من اليأس استل السكين وغرسها في قلب ابنه الكبير وقبل أن يفيق عاجله بطعنة أخرى أخرست كل أنفاسه وإلى الأبد.

ثم انتقل إلى ابنه الثاني، كانت السكين تقطر دماً نظر إليه فوجده نائماً وفي لحظة جنونية هوى بالسكين فشقت صدر الطفل الذي أخرج صرخة قصيرة فما كان منه إلا أن وضع يده على فمه حتى لا يوقظ الطفلة وزوجته.

في هذه الأثناء أفاقت ابنته من نومها نظرت حولها فوجدت والدها فوق رأسها نهضت من سريرها ورمت بنفسها على صدره وهي تقول «بابا أنا خائفة» لكن الرجل لم يتكلم معها.

بدأت أنفاسها الصغيرة تلامس وجهه، ضمها إلى صدره ثم وضعها في سريرها، وقبل أن تغمض عينيها كانت السكين قد نفذت إلى قلبها ممزقة ضلوعها.

أخرج الرجل السكين من صدر ابنته ثم أعادها إليه مرة أخرى حتى تأكد بأنها ماتت، بعدها ذهب يتفقد الولدين، فوجدهما قد فارقا الحياة.خرج الرجل من غرفة نوم أولاده بعد أن تأكد من موتهم جميعاً، كانت السكين لاتزال في يده وقد غطتها الدماء، كذلك غطت الدماء ملابسه ويديه ووجهه وكل جسمه.

ذهب إلى حيث تنام زوجته، فأحست به، استيقظت وأضاءت نور الغرفة فهالها ما وجدته من منظر زوجها، بدأت تصرخ، لكنه حاول إسكاتها بضربة من السكين، إلا أنها هربت، لكنه لحق بها وطعنها في يدها، بدأت المرأة تصرخ فأمسك بشعرها ورماها على الأرض وهجم على صدرها، حاولت المرأة أن تقاوم فغرست أظافرها في وجهه وعينيه لكنه عاجلها بطعنة في قلبها.

تمكنت من الخلاص منه للحظة وهربت نحو الباب، لكنه ضربها في ظهرها بالسكين التي نفذت إلى كبدها.

وقعت المرأة على الأرض، ومع ذلك بقيت تقاوم حيث غرزت أظافرها في وجهه من جديد، بدأ الدم ينزف من وجهه، لكنه جثا عليها وغرس السكين في رقبتها حيث فارقت الحياة.

الوصية

بدأ الرجل متعباً ومرهقاً بعد تلك المذبحة التي ارتكبها في بيته، ومع ذلك ذهب حيث غرفة أولاده، وعندما تفقدهم وجدهم قد ماتوا جميعاً.

عاد إلى زوجته، جلس بالقرب من جثتها فترة، تأكد من أنها فارقت الحياة، ثم ذهب وأحضر ورقة وقلماً وكتب قصة حياته منذ أن سافر من بلاده وحتى آخر لحظة من حياته، حيث وضع حبلاً في مروحة السقف في شقته وربط نفسه فيها حيث شنق، وكتب الرجل في رسالته «إياكم أن تظنوا أنني قتلت زوجتي وأولادي لأنني أكرههم، بل قتلتهم لأنني أحبهم وأخشى عليهم إن انتحرت أن يعيشوا من بعدي عيشة سوداء، لذا قتلتهم قبل أن أنتحر حتى أخلصهم من عذاب الدنيا الذي كان ينتظرهم».

وترك الرجل رسالته التي تركها قبل أن ينتحر وصية قال فيها «أرجوكم أن تحترموني كما هي العادة المتعبة عندنا، وذلك لأنني أخاف من النار».

بقي سر هذه العائلة غير معروف لأكثر من أسبوع، حيث انبعثت من الشقة التي كانوا يعيشون فيها رائحة كريهة، إضافة إلى أن بعض أقارب الزوجة أخبروا الشرطة بأنهم لم يروها وأنها متغيبة عن المدرسة منذ عدة أيام.

بعد أخذ الإجراءات القانونية، تم فتح الشقة من قبل الشرطة، حيث كان المنظر مهولاً والدماء تغطي الأرض والجدران، وعثرت الشرطة على الرسالة التي تركها الرجل، كما عثرت تحت أظافر المرأة على قطع من جلد وجهه، ما يعني أنها كانت تقاومه، وبعد أن تم فحص الجلد الذي وجد تحت أظافر السيدة ومقارنته عن طريق الخء مع جلد الرجل، تبين أن الرجل هو الفاعل، كما جاء في رسالته.