لم أكن أتخيل يوما أن أكتب إليك, لكن عندما تقرأ قصتي ستعرف أنني في حيرة من أمري, وفي أشد الحاجة لمن يأخذ بيدي إلي الاتجاه الصحيح, قبل أن أتفوه بكلمة واحدة أقسم بأن كل ما سوف أحكيه صدق وليس من وحي الخيال, ولعلك تستعجب من هذا القسم المبكر, لكن مع قراءة سطور هذه الرسالة سوف تعلم أنه كان لابد من هذا القسم حتي تستطيع أن تكمل الرسالة ولا تظن أنها من قبيل الخيال العلمي أو من خيال المؤلف, وإن لم تصدقها فلك كل الحق, فأنا أيضا لا أصدق وأشعر بأنني في كابوس.
بداية أنا شاب في أواخر العشرينيات من عمري, أعمل في وظيفة مرموقة وأحسب نفسي من الذين تمت تربيتهم دينيا وخلقيا بطريقة جيدة.
في مقتبل عمري كانت لي بعض العلاقات العاطفية العابرة, مثل أي شاب في فترة المراهقة, لكنها مرت كلها بسلام والحمد لله, ونسيت كل شيء والتفت إلي حياتي وعملي وانشغلت كليا عن فكرة الارتباط والزواج حتي كان هذا اليوم, وهذه كانت بداية حكايتي.
في يوم عطلة شعرت بالملل ففتحت موقعا للدردشة علي النت لعلي أصادف من أتحدث معه أو معها, دخلت وتحدثت مع بعض الأشخاص حتي صادفت فتاة أعجبتني صفاتها وعمرها مناسب, في البداية تعاملت معها علي أنها معرفة سطحية لن تستمر أكثر من دقائق, لكن الأمر تجاوز هذا الحد وتحول إلي انجذاب لا مثيل له, وبدأت تطول أوقات حديثنا من خلال النت حتي تحول إلي إدمان, وأصبحنا نقضي الليالي نتحدث. أعجبني فيها, حسب كلامها, خلقها وعلمها وتمسكها بدينها, وبدأت أفكر لأول مرة في الزواج, وصارحتها مباشرة بالأمر, وطلبت منها اللقاء كي نتفق فوعدتني باللقاء.
لكن قبل موعد اللقاء بقليل كانت تختفي ثم تظهر بعد فترة من جديد, وعند السؤال تتعلل بأسباب قوية تمنعها فعلا من الاتصال بي كعملية جراحية مثلا, ويتكرر الأمر كثيرا وتتوالي الحجج, لكننا كنا نتحدث هاتفيا, وفي كل مرة نتفق علي لقاء تخرج بحجة مقنعة جدا, ويتوالي غيابها المفاجئ مما يؤجج نار الشوق بداخلي, وفي كل مرة تلجمني بحججها, مرة وفاة جدتها, ثم وفاة والدها, وكانت أمها قد توفيت منذ فترة, ثم موت أختيها مع ابن خالتها في حادث, ثم تعرضها هي لحادث سير, وهكذا سلسلة من الحجج التي لا تنتهي استمرت ستة أشهر منذ بداية تعرفنا علي النت, لكننا كنا نتحدث في الفترات التي لم تكن تختفي فيها كل يوم قرابة الإثنتي عشر ساعة, ولا نمل من الكلام أبدا.
كانت تحكي لي الكثير عن نفسها ووالدها ووالدتها المتوفيين, وعن أختيها اللتين توفيتا بالحادث, وعن كل أقاربها, لكن كنت تكثر من الحديث عن خطيبها السابق الذي أضر بها كثيرا, وكانت تبكي كلما تذكرت ما فعله بها.
في هذه الفترة كنت أشعر أني أحبها بدرجة لم أكن أتخيل أنني سأصل إليها أبدا, ولا أدري ماذا حدث لي, أقسم لك أنني أحببتها ولم أتمن علي الله أمنية كما تمنيت أن يجمعني بهذه الفتاة.
كما كانت تقول لي من كلام الحب أشكالا وألوانا تئن لها قلوب العاشقين, وهكذا مرت الأشهر دون أن نلتقي, واختفت فجأة كالعادة, لكن هذه المرة ليست ككل مرة, ففي أوج مشاعرنا رجعت من عملي ليلا لأجد رسالة تقول فيها إنها لن تستطيع أن تكمل معي, وإن أحد الذين كانت تعرفهم في الماضي تقدم لخطبتها وهي وافقت( جوازة والسلام ـ علي حد قولها), ولك أن تتخيل ما حدث لي, وفعلت المستحيل حتي تحدثت إليها فاعتذرت لي بأنها في مشكلات وأنها اضطرت لذلك وأنها تحبني جدا و.. و.. وهي الآن لي وحدي
لكنها اختفت من جديد لمدة ثلاثة أسابيع وكدت أجن وخفت كثيرا من أن يكون حدث لها مكروه, وبعد محاولات كثيرة مستميتة توصلت إليها وكانت حجتها أنها أجرت عملية جراحية كبيرة جدا, وأنها لم تخرج من المستشفي سوي من يومين فقط, وكانت تنوي أن تتصل بي في أقرب فرصة بعد أن تقل الزيارات من بيتها, وطبعا صدقت ككل مرة واستأنفنا علاقتنا وحجج عدم اللقاء لا تنتهي أبدا, وأنا أنتظر هذا اللقاء علي أحر من الجمر كي أراها ولو مرة لنتفق قبل أن ألتقي بأسرتها, أخيرا كان اللقاء بعد أن عرفتها لشهور طويلة, كان لقاء!! لا أستطيع أن أصفه, أغرب ما فيه هو استعجالها العودة إلي البيت الذي من المفترض أنه خال, فما الداعي للعجلة؟! كما استوقفتني ملابسها التي تخيلت أنها أفضل من ذلك( نعم كانت ترتدي حجابا ولكن!!!), وتوالت اللقاءات والأحاديث, وتطورت العلاقة وأنا ألح عليها في مقابلة أسرتها.
وخلال أحاديثنا ومقابلاتنا كانت تحدثني عن كم هائل من الأحداث المتشابكة, وأشخاص يقومون بدور في حياتها, وفجأة ظهر طفل عمره نحو5 أشهر, نسبته لبنت خالتها التي أنجبته ولأنها مريضة أوكلت إليها مسئوليته بشكل مؤقت لأنها الوحيدة في العائلة التي لم تتزوج بعد, ولا يوجد ما يشغلها.
وكثيرا ما حدثتني عن خلافات والدي الطفل, والكثير من الأحداث التي لا تنتهي.
وأصبح هذا الطفل وبالا علينا, وتنغيصا لحياتنا, فأصبحت مكالماتنا قليلة, ولقاءاتنا أقل, خصوصا أنها كانت تتحجج بوجود أخيها, وكنا لا نلتقي إلا بعد سفره حيث إنه يعمل خارج البلاد, وكنت كلما فاتحتها في موضوع الزواج تتحجج بآلاف الحجج, منها أنه لم يمر الوقت الكافي علي وفاة والدها وأختيها, أو أن أخاها يعاني مشكلات ولن تستطيع الكلام معه في الوقت الحالي, وادعت أن أخا زوجة أخيها يرغب في الزواج منها إلي آخر الحجج والحكايات التي لا تنتهي, وأنا صابر علي أمل أن ينتهي كل هذا, وبدأت المشكلات وتوالت وكثرت, وكلها كانت بسبب أشياء تفعلها معي, وعند المناقشة لا تسمع غير نفسها وعقلها فقط.
ويعلم الله أنني ما تمنيت أحدا غيرها, لكنها كانت تتعمد المشكلات معي, وإذا تناقشت معها تحتد علي وتهددني بالابتعاد, كنت أشعر في كثير من الأحيان أن هناك سرا ما, لكنني فضلت السكوت والشك يملأني خشية أن أفقدها.
وبدأت أتعامل معها علي أنها مريضة نفسية بسبب ما حدث لها من خطيبها السابق, وأنه بمرور الوقت وبعد الزواج ستنسي.
نعم كانت مشكلاتنا طفيفة وسطحية, لكنها كانت كثيرة, لكننا كنا نتغلب عليها, ومرت الحياة هكذا وتعمقت طبيعة العلاقة وتأصلت كثيرا, ومر عام كامل علي بداية علاقتنا, ثم يريد الله أن تكون هذه هي اللحظات الحاسمة, وبدون الخوض في تفاصيل مؤلمة اكتشفت حقائق مثيرة.
لكن عندما اتصلت بها أنكرت وزيفت كل الحقائق, الحقائق التي أقسمت عليها في أول حديثي ولن يصدقها عقل أبدا.
هذه الفتاة هي أم ذلك الطفل, والشخص الذي تدعي أنه أخوها هو زوجها, ولا وجود لشخصيتها الخيالية, ولا حقيقة في كلمة واحدة مما قالته, فلم يمت والدها ولا والدتها, وليس لها أختان أصلا كي تموتا في حادث, فليس لديها سوي أخ, ولم يحدث لها أي حوادث, ولم تقم بأي عمليات جراحية, والفترة التي غابت فيها طويلا( نحو ثلاثة أسابيع) كانت الفترة التي انجبت فيها طفلها, والفترات التي كانت تختفي فيها هي فترات وجود زوجها في البيت.
وكل ما حدثتني به عن أقاربها وعن نفسها وعن عائلتها وكل شيء, كل شيء كان كذبا خالصا.
في بداية الأمر فكرت أنها ربما شعرت تجاهي بأحاسيس قوية, وهذا وارد أن يحدث حتي من امرأة متزوجة, وإن كان خطأ, لكنني اكتشفت أنها كانت علي علاقة بالكثيرين غيري, وكانت تفعل معهم مثلما تفعل معي الضبط, كل هذا وزوجها مخدوع وبعض أقربائها يعرفون.. كل هذا ولم يؤنبها ضميرها في يوم, ومازالت تتحجج وتتعلل وتكذب دون أن تطرف لها عين.
لن أقول لك ما بداخلي, ولن أحكي لك عما أشعر به, لأني لو ملأت صفحات العالم ما انتهيت من كتابة أول حرف من أوجاعي.
لكن الغريب في الأمر كله أنني مازلت أحبها ولم أستطع أن أكرهها.
لا أنام الليل إلا بأدوية منومة, ولا أمارس عملي إلا بأدوية مضادة للاكتئاب دمرت حياتي كلها, وأكثر ما يؤلمني هي التفاصيل التي لا أستطيع البوح بها! لكنني أبدا لن أفضحها, فمازلت متيما بها!
* سيدي... كان يمكنني عدم الاهتمام برسالتك, وعدم إفساح كل هذه المساحة لها, مكتفيا برد خاص, لأن حكايتك تشبه حكايات المراهقين الذين يطاردون سرابا ليشبعوا أحلامهم وتخيلاتهم الساذجة عن الحب, فتجرفهم المشاعر الصغيرة غير الناضجة, معتقدين أن الحياة لن تستمر, إلا مع هذا الحبيب, ويصفون حبهم بأنه غير مسبوق ولم يحدث مثله أبدا.
مشاعر المراهقين وتصوراتهم القاصرة عن الحب, مفهومة ومقبولة, ولكن المستغرب أن يعيش هذه المشاعر رجل في نهاية العشرينيات ويعمل في وظيفة مرموقة, ويتحدث عن خلقه وتربيته الرفيعة.
هذا المفهوم المغلوط والمشوش عن التربية الدينية والأخلاق الحميدة, بأن يبيح شاب مثلك لنفسه ان يدخل الي الشات يبحث عن رجل أو امرأة وهو يعرف أن الأسماء وهمية, والحكايات أغلبها كاذب وليس لها هدف إلا العبث والتسلية, ثم يشعر من أول تواصل أنه منجذب ومحب, وخلال أيام تصبح المكالمات بالساعات كل ليلة, ويعجبه بعد ذلك خلقها وتمسكها بدينها...
فماذا كنت تتصور أو تقبل بأن تفعله فتاة ليست علي خلق أو غير متمسكة بدينها؟.. أي فتاة تلك التي تتعرف علي شاب لاتعرفه, ولا تعرف عائلته أو خلقه, ولا إذا كان صادقا أو كاذبا فيما يقول, ثم تري انها علي خلق ودين؟!
إن هذه المفاهيم الجديدة عن التدين والأخلاق, والتي يتبناها من هم مثلك ومثل تلك المرأة, هي التي تهز القيمة الحقيقية للأخلاق والتدين عند الفتيات الملتزمات, فيشعرن بأنهن علي خطأ, بعد أن أصبح الخطأ هو القاعدة, والصواب هو الاستثناء المشكوك فيه.
قصتك ـ ياسيدي ـ ليست خيالا علميا, ولكنها خيال عيالي, لا يتناسب مع وظيفتك ولا عمرك.. خيال دفعك للدخول في قصة وهمية كانت نهايتها سيئة ومحبطة, ولا يمكن توقع نجاح مثل هذه العلاقات القائمة علي الكذب والخداع.. الحب يحتاج إلي بيئة طبيعية محترمة, يتعارف فيه الطرفان وجها لوجه, يتآلفان, يتفاهمان, تتوافر لهما ولأسرتيهما فرص التعارف والتكافؤ, بعدها يمكن للحب أن ينمو بصورة صحية قادرة علي الاستمرار.
سيدي.. لا أريد أن أخوض في تفاصيل رسالتك, لأنها لا تهم أحدا, لقد أخطأت وعليك تحمل النتيجة والتعلم مما وقعت فيه, وعليك ان تحذر, فقد حمت هذه المرة حول دائرة اللهب مستمتعا بدفئه وانت بدون ان تدري تنتهك عرض رجل آخر, فإذا لم تكن احترقت هذه المرة, فإن النار في انتظار المغامرين والمندفعين والغافلين مثلك ومثل تلك الزوجة التي سمحت لنفسها بهذا العبث
وهي تحمل في أحشائها جنينا, غاب عنه أبوه مضطرا ليوفر له ولأمه حياة كريمة, وبدلا من أن تحفظه وتقدر له معاناته, استغلت ثقته فيها, وخانته بما وفره لها, عبر جهاز الكمبيوتر لتلهو وتكذب وتخدع بدون ان يهتز لها جفن, فإذا كان الله حليما ستارا هذه المرة, فلا تدري كيف سيكون احتراقها في دائرة اللهب في المرة القادمة.
ادعو لك الله باستعادة نفسك والاعتراف بخطئك, ولها بأن يلهمها الصواب, وتكفر عن أخطائها بالتقرب أكثر إلي زوجها والاخلاص في محبته ورعاية إبنها, والابتعاد عن هذا الجهاز الملعون, فهو لم يخترع لهذا أبدا.. وإلي لقاء بإذن الله.