الانسان بحر
يخلق الانسان بحرا عظيما تصطخب أمواجه ولا تتوقف عن الحركة, والبحر نقاء رائع لا نهاية له, فهو رياح ربيعية منعشة واضطراب مسكر, والبحر هو الكيان الوحيد النقي في كيانات الكون, وأي تلوث يلحق بالبحر أو يلقي فيه يتحول بفضل الملح الي نقاء, والبحر سطح وقاع وتيارات قاع ومياه باردة ومياه دافئة, وجزر مرجانية ولآليء وذهب ونبل يرتطم أحيانا بالصخور, وسفن غريقة وصراع بين أسماك القاع المظلم.
هذا هو الانسان, أو هذا أصل الانسان
وأحيانا يتحول البحر الي مستنقع, وأحيانا يتحول الي بحيرة, وأقل المآسي ضررا أن يتحول البحر الي بحيرة, ولكن أقل المآسي ضررا هو الطريق الوبيل لافدح المآسي.. ولابد من زمن طويل ومرير ليتحول البحر الي بحيرة, ثم لابد من طريق آخر طويل ومرير لتتحول البحيرة الي مستنقع.
والأصل في البحر أنه مفتوح علي بقية البحار, أما البحيرة فمغلقة لا تتصل بالبحار, وحين ينغلق الانسان يفقد قدرته علي الامتداد والتجدد, ثم تبدأ شمس الهموم الحارقة في تجفيف البحيرة, ويوما بعد يوم تقل حركة الموج وتهدأ حركة الرياح, ولا يبقي غير طين موحل فيه بقايا معلبات ونفايات وصاج مكسور وقطع طوب وزجاج مغبش, وقطع من أمشاط ونقود نحاسية, وتأتي السفن وترمي بقاياها في المستنقع..
ويستمر التلوث ويطوي تاريخ البحر, ويبدأ تاريخ المستنقع.
متي يتحول الانسان من بحر إلي مستنقع؟
عندما ينحصر في ذاته, ولا يحزنه البؤس الانساني, ولا تحركه النماذج الثائرة في التاريخ, حين يتوقف الانسان عن الحب, يتحول من بحر الي مستنقع.. يركد ويلوثه الاعتياد اليومي.
لا أتحدث عن حب النساء.. أتحدث عن حب أعلي درجة.
أن يحب الانسان فكرة ما.. أن يعشق نموذجا من نماذج الحنين البشري للكمال.. أن يقع الانسان في هوي كرامة الحياة والاحياء.. أن يعتبر الانسان نفسه مسئولا عن هموم أكبر من همومه..
أن يتخلي الانسان عن ذاته ليصير ذاتا للآخرين.. أن يكتشف الانسان معني ابتسام البشر والحيوان والنبات والجماد.
حين يموت هذا اللون من الحب في قلوبنا, يتحول الانسان من بحر إلي مستنقع.. وليس في المستنقعات لآليء.. وإن كان فيها معلبات فارغة صدئة.. وبغير لآليء البحار يموت النبل الداخلي للانسان.
وحين يموت هذا النبل يموت معني الانسان.
وقانا الله وإياكم شر تحول البحار الي مستنقعات.