التوفيق تحت أقدام الآباء

كنا صغاراً نتسابق إلى قدمي والدي فور قدومه من عمله ظهراً، لعلّ أحدنا أو بعضنا يفوز بشرفِ خلعِ الجوارِب وهو لايزال واقفاً ليسرّ هو بذلك، وتأتي دعواته بالرضا فتحاً عظيماً لنا جميعاً، فكنتُ أسأله عن سببِ خشونةٍ ألمسها في آخر قدمه كلما جاءني الدور، كان يقول حينها اشكروا اللهَ عزّ وجلّ أنكم في زمنٍ تستمتعونَ فيه بأجمل الأحذية وأرقاها وألطفَها على أقدامكم، تحتمون بها من حرارة الأرض وتشقّقات الأرجل، ولم تولدوا في عصرٍ كالذي كنّا فيه ونعيشه ونرضى به.
فقد كان موعِدنا مع مصلِحِ عجلاتِ السيارات رغم قلتها حينئذ كموعد المركبات نفسها معه، حيث درج الناس في ذلك الزمن على استغلالِ مخلفات البيئة بدقة متناهية دون تركِ أي شيءٍ يعينهم على تحمل مشاق الحياة إلا واستخدموه بعد إدخال التعديلاتِ المناسبة عليه، ومن ذلكَ صِناعةُ الأحذية من الكفَرات، فالإسكافيّون حينها كانوا أبعد ما يكونون عن آمالنا في الأوقات العاديّة وأشهر السنة، بل هم أمنية ننتظِرها من عام لعام في عيدِ الفطرِ، تيسّرَ الحال وتوفّر المال، ولم يكن ألذُّ عندي من موعدي مع ذلك الرّجل الطّاعِنِ في السن، يومَ يأمرني بالجلوس على بقايا صندوقٍ خشبيّ يتخذهُ كرسيّاً للزبائن، حتى يعرٍف مقاس أرجلهم، لكي يستطيع اقتطاع جزءٍ مناسبٍ من الكفر الذي يعتَبره أفضل خامٍ مرّ عليه، كيف لا؟ وهو يدر عليه ربحاً وفيراً من هذه المهنة المهمّة.
ويا لَها من متعة للأولاد؛ ولي في ذلك السن حينَ تكتملَ خياطَة أجزاء ذلك الحذاء المخترَع، وتلتئمَ عُراه ليُصبِح جاهزاً أن أدُسَّ فيه قدميَ بسرعة، آخذاً طريقاً أطول من الطّريق التي توصلني إلى البيتِ عادةً في رحلة تجربَةٍ للضيفِ الجديد، وكلّما كانَ السّوادُ النّاتج عن احتكاك أقدامِنا غصباً بطبقة الحذاءِ الكَفَريْ كثيراً، زادَ ألَقنا بأنّ كلّ من يرانا ويرى العلامة الفارقة في أرجلنا سيعرف أنّنا اشترينا حذاءً جديداً ولو لم ير الحذاءَ بنفسه حتى تستحكمُ تِلك الصّباغة السوداء منّا، وتَتَفطّرَ جلودنا شتاء، وتلتهب صيفاً في معاناةٍ يومية، كانَ شعورنا بها شعور الصداعِ الأرستقراطيّ العاديّ هذه الأيام.
ومن مميزات هذا النوع من الاختراعاتِ الاستهلاكيّة في حياتنا الأولى أنّها تُعينُنا على الجريِ والتّسابق المحببِ لمن هم في أعمارنا دوما بفعِلِ التصاقها بالجلدِ البشري، فلا يمكن أن تسقط أو تبقى وراءَ صاحبها ولو انقطعت بعض خيوطها، كما أنّها أسلحة بيضاء الأداء رغم سوادِها، فهي تقوم بدور بارزٍ ومثمرٍ إن جنحنا لعِراك مع أولادٍ آخرين لأي سببٍ من الأسباب، وأبرز ما يميزها هو تشابهها مع بعضها عندَ خلعها في التجمّعات العامّة، فلن يغضبَ أحد منّا بحثاً عن فردة نعْلِه الأخرى، أو يجدُ حرَجاً في توحد الجهتين، فاليمينُ واليَسار في عرف أحذيتنا واحدٌ.
فخُشونةَ قدمي والدي وإن ترَكَت آثاراً وبقايا مادية، لكنها تبقى مؤدبةً للنّفس في الاستمتاعِ بالتحسن والرّغَد وشكره تعالى، أمّا الذي لا يزولُ ولا يمكنُ أن يمحوهُ الزّمان، هو خُشونة التّعامل مع خلق الله، فالنّاس تنسى فقراً ولا تنسى قهراً.

بقلم محمد بابا - ينبع