الغراب أسود لكنّ ملابسه الداخلية بيضاء

كان حمار يجلس في الطائرة بجانب غراب يقوم بين الحين والآخر بدقّ الجرس، فتأتي المضيفة تسأله عن حاجته، فيقول وهو يضحك: كيفي! أُعجب الحمار بالحركة وأخذ يفعلها وهو ينهق ضاحكاً. بعد قليل جاءت المضيفة ومعها قائد الطائرة الذي أراد تهدئة الأمور، فطلب منهما الاعتذار، لكن الغراب رفض وفعل مثله الحمار. أُلقي بهما إلى الخارج وراح الحمار يهوي إلى الأرض بسرعة والغراب يطير حوله وهو يقول: لماذا لم تعتذر وأنت لا تحسن الطيران؟
كأن هذه الحكاية تريد أن تقول شيئاً.. فالأصل ألا نخطئ، وإذا أخطأنا، فالأصل أن نبادر بالاعتذار، إلا إذا كنا نستطيع تحمّل العواقب، لكن آذان البشر تشفط النصائح من جهة وتخرجها من الثانية، ويريد كل واحد من الـ6 مليارات آدمي، أن يكون عبرة لإخوانه وأخواته الـ 5.999.999.999. أخبرني شرطي صديق أن سيارة كانت تقف ليلاً في موقف مدرسة وتنبعث منها إضاءة خافتة. عرف بحاسة شمّه الأمنية أن معمعة تحدث في الداخل. طلب من سائق الدورية سدّ الطريق أمام السيارة، وطرق بيده على زجاجها المعتم مرات عدة إلى أن خرج الغراب الأسود بملابسه الداخلية البيضاء.
يقول صديقي إنه في كل مرة يواجه حالات مشابهة يطبق المثل القائل: "إذا أنا راضي وأنت راضي فما دخلك يا قاضي؟"، بشرط ألا "يتعنتر" المخطئ، لكن مخطئنا هذه المرة نزل نافخاً ريشه، وقال: أنا الضابط الفلاني من المكان الفلاني ومعي زوجتي، فطلب منه إبراز وثيقة الزواج وبطاقة تثبت هويتها، لكن الغراب كرر كلامه وهو محتد وغاضب. فركب جنّي العناد رأس الشرطي وقال له: ضابط على العين والرأس، لكنني على رأس عملي، ولن أتحرك من هنا إلى أن أتلقى اتصالاً من مدير المركز يأمرني بالتحرك.
فجأة أصبح الغراب حماراً بأذنين كبيرتين، وأخذ يتوسّل الشرطي الذي أصر على موقفه، فما كان من الضابط إلا أن وقع على يديه يقبّلهما ويرجوه لأنه سيخسر وظيفته إذا كُشف أمره. عاد الشرطي إلى سائق الدورية وأخبره بما جرى، فأعجب هو الآخر بأن يقبّل ضابط يديه، وطلب منه أن يعفو عنه، لكنه هو الذي سيرفض؛ وفعلاً مثّلا المشهد بإتقان، وهوى الضابط يقبّل يد سائق الدورية ولم يتركاه إلا بعد أن أخذ ينهق بكاءً.
والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه أنني لم أقلّد الغراب إلا مرات قليلة، منها ما حصل لي في عزّ الشباب، حين حاولت الوصول إلى مواقف جهة حكومية، لكن سيارة متهالكة لم تفسح لي المجال، فأخرجت رأسي وتلفظت على سائقها بكلمة نابية "قليلاً" ودخلت إلى المكان فرحاً بالانتقام منه وتوقفت أمام جدار لا يتزحزح أبداً. انتبهت إلى سيارة تقف خلفي. وقبل أن أفكر في كلمات الاعتذار، كان أحدهم يسحب غترتي ثم يجذبني من شعري الطويل، والثاني يسدد لي ما استطاع من اللكمات، والثالث يحرّضهما ويقول "خلّوني عليه!"، وأنا أعتذر بـ"آسف.. وآخر مرة.. وتوبة.. وأرجوكم!".
بالطبع لم يكن أمامي إلا تجرّع كأس الذلّ، لأنهم كانوا ثلاثة وكل واحد منهم بحجم البغل, ولأنني كنت أعرف أن المسألة ستنتهي هنا ولن تكبر في مركز الشرطة، ثم النيابة العامة التي كنت أعمل فيها في ذلك الوقت، فكيف أدخلها متّهماً بالسبّ والاعتداء المتبادل، أو بالأحرى بمئة "بوكس" منهم مقابل واحد مني مع عضة بعير؟
لذلك، لا تخطئ يا إنسان حتى ترجو الآخرين، وإذا لعب الشيطان معك وأغواك، فاعتذر سريعاً، فإذا لم تسمح لك كرامتك بذلك، فتذكّر أنك قد تقبّل يد "الذي يسوى والذي لا يسوى" أو تهوي مثل الحمار من ثلاثين ألف قدم

» حساء كريمة عيش الغراب
» 300‬ضابط في الحرگة الداخلية لقطاع مصلحة السجون